سوق النحّاسين ، لحن طرابلسيّ من نوع آخر !
توجد في مدينة طرابلس عاصمة الشمال ما يزيد عن مئة معلم أثري قديم. لكل معلم من المعالم أهمية تراثية و طابع أثري عريق يبرز جمال المدينة ويحيي تاريخها القديم. تملأ مدينة العلم والعلماء الكثير من المساجد، الحمّامات، الخانات، المدارس الدينية والعلمية، القلاع و الأسواق الشعبية. ساهمت الأسواق القديمة الموجودة في المناطق الطرابلسية الشعبية في جعلها كنز غني بالحرف المميزة وصناعة مختلف المنتجات التي تدعم اقتصاد طرابلس. تتمثّل هذه الأسواق بسوق العطّارين الذي يبيع الأعشاب والبهارات، سوق الخضار المختص ببيع الخضار، خان الصابون الذي يعنى ببيع وصناعة الصابون وسوق النحّاسين الذي يقوم على صناعة القطع النحاسية المنقوشة بأجمل الزخارف والتفاصيل.
موقع سوق النحّاسين:
يقع سوق النحّاسين في مدينة طرابلس شمال لبنان. تحديداً في المناطق الشعبية حيث يمتدّ من حمام “عز الدين” ليصل إلى منطقة التربيعة. يفصل السوق بين خان الخياطين و سوق البازركان.
تاريخ سوق النحّاسين:
يعود تاريخ سوق النحّاسين إلى عهد المماليك الذين قاموا ببنائه خلال وجودهم في مدينة طرابلس. أي يبلغ عمر السوق أكثر من ٨٠٠ سنة.
ما هو سوق النحّاسين:
كان سوق النحّاسين قديماً يحتوي على عشرات المحلّات التي توجد مقابل بعضها البعض. إنه سوق لصناعة القطع النحاسية الفنية. حيث يقوم الحرفيين الطرابلسيين بتشكيل القطع النحاسية و من ثمّ نقش الزخارف والكلمات عليها لتصبح قطع نحاسية فنية تحظى بإعجاب الناس وترضي مختلف أذواقهم. يتميّز هذا السوق بأصوات المطارق ومعدّات النقش التي تعتبر لحن رائع لآذان النحّاسين أثناء استمتاعهم بممارسة حرفتهم اليدوية التي تجمع بين الفن والصناعة.

حين نسمع باسم سوق النحّاسين لا يخطر على عقولنا سوى رجال تعمل بأيديها الخشنة لصناعة وحفر القطع الفنية
كيفية صناعة القطع في سوق النحّاسين:
تتمّ عملية صناعة القطع النحاسية ابتداءً من استيراد النحاس من الخارج أو شرائه من تجار محليين من لبنان. يحضر النحّاس الطرابلسي النحاس ويشكّله على شكل القطعة التي يريد صنعها كشكل صينية أو طنجرة على سبيل المثال. بعد ذلك يقوم النحّاس بإحضار عدّة الرسم والنقش التي تتمثّل بأقلام فولاذية خاصّة للنقش و مطرقة تستخدم يدويّاً لتأخذ القطعة شكل الزخرفة الصحيح. حين تنتهي عملية النقش يقوم النحّاس بطلي القطعة بماء الذهب أو مادة النيكل أو النحاس الأحمر والأصفر. يعطي هذا الطلي القطع النحاسية لمعة وجمال يزيد من روعتها وقيمتها الفنية.
سوق النحّاسين بين الماضي والحاضر:
ازدهر سوق النحاسين قديماً وبلغ ذروته حيث كان إقبال الناس على شراء القطع النحاسية مرتفع. كانت الحركة السياحية نشيطة الأمر الذي جعل النحاسين يصنعون الكثير من القطع النحاسية وخاصة تلك التي تحتوي على أسماء منقوشة باليد.
أمّا اليوم فلم نعد نسمع صوت المطارق على النحاس إلّا نادراً عند الدخول إلى السوق. بسبب غلاء الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية أصبحت أسعار النحاس باهظة الثمن. قديماً كان سعر كيلو النحاس بدولار أو اثنين أي ثلاثة آلاف ليرة لبنانية أما اليوم أصبح سعر الكيلو ١٦ دولار أميركي دون النقش عليه وإتمام صناعته. بالإضافة إلى تدنّي نسبة السائحين في الأسواق بسبب الأوضاع الأمنية و غلاء المعيشة التي يمرّ بها لبنان. شكّلت هذه الأمور سبب كافي لتراجع حركة سوق النحّاسين وتوقّف بعض أصحاب المحلّات من إكمال عملهم بل على العكس عمدوا إلى الإقفال والانتقال للعمل بمهنة أخرى.

“فاطمة طرطوسي” كسرت هذه القاعدة وتمكّنت من إثبات نفسها بالمقدّمة في صناعة التحف النحاسية.
أنواع القطع النحاسية:
لا تقتصر القطع النحاسية على القطع الأثرية التي توضع في المنازل والجوامع للديكور والتزيين. بل يقوم النحّاسين الطرابلسيين بصناعة قطع تستخدم للطهي كالطناجر، الصواني، هاون للثوم أباريق المياه. بالإضافة إلى قطع التزيين والطبخ طوّر النحاسين صناعتهم وأصبحوا يعتمدون على صناعة القطع الأكثر طلباً في يومنا ليستطيعوا كسب المال. حيث بات النحاسين يصنعون الأراجيل ويبيعونها إلى المحلّات المنخصّصة ببيع الأراجيل وأدواتها الباقية. لا يمكننا أن ننسى دور النحّاسين في صناعة الألعاب الترفيهية القديمة كصناعة طاولة الزهر التي تلقّب بلعبة “الختايرة” أي كبار السن الذين يستمتعون بلعب الطاولة مع أصدقائهم في القهاوي.
أول سيدة نحّاسة في طرابلس:
حين نسمع باسم سوق النحّاسين لا يخطر على عقولنا سوى رجال تعمل بأيديها الخشنة لصناعة وحفر القطع الفنية. لكنّ السيدة “فاطمة طرطوسي” كسرت هذه القاعدة وتمكّنت من إثبات نفسها بالمقدّمة في صناعة التحف النحاسية. كان والد السيدة فاطمة نحاس يعمل في صناعة النحاس مع أخيه وأولاد أخيه. في يوم من الأيام تم فصل الشراكة بين والد السيدة فاطمة وأخيه قائلين أن السيد محمد طرطوسي ليس لديه أولاد ذكور يساعدونه في العمل. الأمر الذي استفز السيدة فاطمة وجعلها تنزل إلى ورشة أبيها من عمر السبع سنوات. تعلّمت فاطمة الحرفة وأصبحت فنانة ومبدعة فيها. تضع فاطمة لمساتها الساحرة على القطع النحاسية التي تطليها بماء الذهب أو النيكل فقط لأنها تعتبر أن النحاس الأحمر والذهبي يذهب لونه ويتأكسد مع الجو سريعاً.